لطالما استشهدت بمسرحية الأديب المصري توفيق الحكيم بعنوان “الشيطان يتوب“، في تحليل السياسة، فالقصة أنَّ الشيطان أراد التوبة، لكنَّ لجنةً من الأزهر -بعد الدراسة والتداول- ترفض طلبه، لأنهم لا يعرفون على من “سيلقون شرور البشر”. ذات القصة، استدلالاً، استخدمها الفيلسوف السوري صادق جلال العظم في كتابه الأشهر “نقد الفكر الديني“.
هذه الحبكة تنطبق على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حربه، لا بل مقامرته العسكرية، في شن حرب ضد إيران.
نتنياهو، بنى إرثه السياسي، على اعتبار إيران، التهديد الأكبر الذي يواجه إسرائيل، وقد كانت مناسبات عدة ينتظر فيها الصحفيون أن يقول شيئاً عن حقوق الفلسطينيين، أو “حل الدولتين“، أو المفاوضات… إلخ، لكنه كان دوماً يخصص خطاباته للتحذير من إيران.
هذا انعكس أيضاً في تبرير هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ، باعتبارها شنت لإعادة (أو أعادت) القضية الفلسطينية على رأس الأجندة الدولية.
التحول في العقيدة العسكرية الإسرائيلية
نتنياهو، استمداداً من إرث والده بنزيون أو بنصهيون (انظر هذا المقال السنوار ضد نتنياهو... تحليل نفسي سياسي لمآلات حرب غزّة)، تمحورت سياسته حول مركزية الأمن لدولة إسرائيل، ولذا فسّر هذا تشدده في رفض حل الدولتين، وفي التأكيد على المبدأ الإسرائيلي (الأمن مقابل السلام)، مشفوعاً بحجة عدم وجود شريك قادر على تحقيق ذلك الأمن، مربوطاً بتوسيع دائرة الأمن لتشمل الجوار المحيط، لا الدولة الفلسطينية المنتظرة، والأهم اصراره في الاستمرار في حرب غزة، خاصة بشعوره أنَّ السابع من أكتوبر جرت على مرأى منه ومسمع.
هذا الإصرار في غزة، ترافق مع تحول في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي يعرفها الإسرائيليون كانت تتمحور في “الاحتواء“ و"الحروب القصيرة"، وهذا تكرر في تعامل إسرائيل مع حزب الله في الجنوب اللبناني، أو في حالة قطاع غزة بشن حروب محدودة قصيرة، ولم تكن معارك إسرائيل قبل ذلك تختلف عن هذا الإطار، حتى إنَّ حرب بيروت عام 1982 كانت قد صُممت حرباً خاطفةً.
اليوم، يبدو التحول في إسرائيل، أنها باتت أكثر استعداداً لحروب طويلة (حرب غزة قاربت العامين)، وشنّت هجمات ذات طابع هجومي (البيجر، واستهداف حزب الله)، التوغل في سوريا، والآن الحرب المفتوحة مع إيران، بعد أن ضربت معظم أدواتها وحلفائها العسكريين.
ماذا تريد إسرائيل؟
هذا التحول يترافق مع رغبة جيوسياسية تقوم على نظام إقليمي، تتفوق فيها القدرات الردعية الإسرائيلية في المنطقة ككل، وبالتالي هذا يفسر، السلوك الإسرائيلي المنفلت بمفهوم التوازن الإقليمي. بهذا المعنى تسعى إسرائيل إلى تحقيق أمرين أساسيين من حربها ضد إيران:
قياس أقصى مدى للقدرات الإيرانية الردعية، وجرها إلى حافة الهاوية.
خاصة أن رد طهران على إسرائيل في أبريل/ نيسان 2024 (رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق)، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024 (بعد هجمات إسرائيلية في طهران واستهداف قيادات حزب الله في لبنان بما فيها الأمين العام السابق حسن نصر الله)، كانت هجمات محدودة الفعالية، ولم تحقق ردعاً موازياً لإسرائيل، وبالتالي تسعى إسرائيل إلى قياس مدى القدرات الردعية لطهران، ولذلك بعد أن شنت إسرائيل أولى هجماتها، واغتالت قيادات عسكرية وعلمية، بدأت في الحديث عن إمكانية تغيير النظام في طهران، لكن لم يتكرر سيناريو حزب الله، مع إيران، لا بل عمدت إلى الرد بصواريخ ومسيرات، أوقعت إصابات مباشرة، وقتلى، وجرحى في إسرائيل، وبدا الارتباك واضحاً لدى الإسرائيلين، رغم التحذيرات المسبقة من نتنياهو وأعضاء حكومته، أن أمام الناس “أياماً صعبة بعد بدء المواجهة مع إيران”.
ومن هنا بدأت الأصوات تتعالى عن أهمية الحل السياسي للأزمة، فاستراتيجية “حافة الهاوية“، تتيح للطرفين، وخاصة إسرائيل قياس القدرة الردعية لطهران، باعتبارها -ولو نظرياً- تشكل عائقاً أمام “النظام الإقليمي الجديد“ الذي باتت تفكر فيه إسرائيل بعد السابع من أكتوبر.
إمكانية إضعاف القدرات النووية لإيران
من المعروف أن المشروع النووي الإيراني، هو مصدر قلق دولي وإقليمي، لكن قيمته العليا، أو الأساسية، ترتبط بالقدرة الردعية، وهذا أيضاً يفسر الهجمات الإسرائيلية على منشآت نووية، يدرك الجميع صعوبة تدميرها، دون تدخل أميركي، ويبدو أن موقف واشنطن أيضا ينبع من إضعاف الموقف التفاوضي لإيران، في ظل المحادثات الأميركية-الإيرانية -التي كانت تجري جولاتها في العاصمة العمانية مسقط-، لذلك غضت الطرف، ولم توافق بوضوح، على الهجمات الإسرائيلية.
إسرائيل بدورها، تقيس أيضاً هنا، الإطار الردعي لإيران، خاصة أن السلاح النووي، إذا ما طورته إيران، سيضعف من قوة إسرائيل الردعية بطبيعة الحال. لذا تسعى إسرائيل، قبل إضعاف القدرات النووية الإيرانية، إلى الكشف عن قدراتها الحمائية، باستهداف تلك المنشآت.
الخلاصة
أين يُبقي كل هذا، نتنياهو من مسرحية الحكيم؟
تكمن الإجابة، في سؤال عدد من الكتاب الإسرائيلين اليساريين الناقدين لنتنياهو، عمّا بعد الحرب في إيران؟ فلو استتب الشكل الإقليمي، كما يرغبه نتنياهو، بسيطرة إسرائيلية… سيفقد، وتفقد الدولة بالتالي، عاملاً أساسياً، يساهم في التفاف الإسرائيليين حوله، وفي صياغة التوازنات السياسية الداخلية، وتدوير النخبة، وهو الأمن، الذي إذا ما تحقق، أو فُقد، سيكون عاملاً مؤثراً في نتنياهو الذي يسعى جاهداً ليضع اسمه بين مصاف القيادات التاريخية في إسرائيل، لكنَّ أداء إسحاق شامير (معلّمه الأول في حزب الليكود) ما زال أفضل من نتنياهو، دون الحديث عن قيادات أخرى مثل بن غوريون، وغولدا مائير، واسحق رابين، وشمعون بيريز، وأرييل شارون… إلخ، وهذا جليٌ في رغائب نتنياهو.
لكن، وبعيداً عن الطموح الشخصي المؤثر، فإن التحولات في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، والتصور الجيوسياسي، هو العامل الأهم، مما يجعل الحرب مع إيران تفهم في ظل تلك السياقات التي باتت تحكم إسرائيل.
إنّها مباراة ومجاراة ردعية بامتياز.
دايمًا مقدمة المقال بتشدني أكمله ولا مرة خيبلي ظني