ما الذي يخفيه مُفجّر كنيسة مار إلياس في دمشق؟
كيف يعقد تنظيم ما يعرف بـ "الدولة الإسلامية" المشهد الطائفي في سوريا؟
لا أدري ما مرَّ في خيال المصلين المسيحيين يوم الأحد 22 يونيو/حزيران 2025 في كنيسة مار إلياس في العاصمة السورية دمشق، لحظةَ سحب الانتحاري للصاعق، لكن من المؤكد أنَّ الرعب كان أحد المشاعر التي انتابتهم. هذا الهجوم الذي قد يكون الأول من نوعه في دمشق، منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024.
بصمات تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية“ (ويعرف بين أوساط منتقديه، ومن يفضلون اختصار الاسم، بـ داعش) واضحةٌ في الهجوم، ويُذكّر بهجماتٍ سابقة في سياقات مختلفة، ففي عام 2011، استهدف التنظيم (وكان اسمه الدولة الإسلامية في العراق) كنيسةَ سيدة النجاة في بغداد، وكان الهجوم قد نُفّذ في لحظات ضعف التنظيم بعد مقتل قيادييه أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر، في سعيٍ لتأكيد وجوده الدموي آنذاك.
على المستوى العملياتي، كان التكتيك المستخدم آنذاك، هو ما بات يعرف بتكتيك “مومباي“، نسبة إلى هجوم مجموعة لاشكر طيبة الجهادية الكشميرية/الباكستانية، ضد مجمع تجاري ضخم، عبر مقاتلين يدركون مقتلهم أو أسرهم في النهاية، أي أنها عمليات انتحارية بالواقع العملي، لكنها تبدأ بوجود مقاتلين على الأرض يقتلون أكبر عدد ممكن.
يمكنكم متابعة أحدث مدونات الحكّاء عبر الواتساب: اضغط هنا للوصول إلى القناة.
منذ ذلك الحين بات التنظيم يستخدم هذا التكتيك، وبات يوصف بالعمليات “الانغماسية“. لاحقاً، نفذ التنظيم هجمات ضد كنائس في مصر، وفق استراتيجيته باستهداف المسيحيين، ومن ثم في سيناء، ضمن إطار سياسته الراغبة بتأسيس إمارة في سيناء.
الهجوم الانتحاري في مار إلياس، ينبع من رغبة التنظيم، في تفعيل شبكاته المتراجعة في العراق، وحتى في سوريا، وانكفأت إلى إفريقيا حالياً، ولا يعني هذا الانكفاء ضعفاً في قدراته العملياتية، فهناك هجمات يومية في الكاميرون، ونيجيريا، وموزمبيق، ودول أخرى.
البنية الأيديولوجية العربية للتيارات الجهادية عموماً، تدفعها للعمل دوماً للعودة للشرق الأوسط. وتجد في سوريا فرصة كبيرة، بحكم عدائها للحكام الجدد في سوريا، وهم أعداء من خلفية جهادية مثلهم، وتكرر وصفهم للرئيس السوري أحمد الشرع بمن “يهدم الشرع“، ودعوتهم المقاتلين الأجانب للانضمام إليهم.
عداوة التنظيم مع “جبهة النصرة” التي أصبحت لاحقاً “هيئة تحرير الشام“، وزعيمها الذي بات رئيساً لسوريا، وصلت إلى حد الاحتراب بمفاهيم الجهاديين، وأي معركة بين الطرفين ستكون دموية بشكل مفارق.
اقرأ للحكّاء أيضاً: خمسة أسباب ستمنع العواصم العربية من الاحتفال بسقوط طهران
إعلان السلطات السورية، في اليوم التالي القبض على أفراد من الخلية، في عرض درامي، يثير الكثير من الأسئلة، وقد عرضت صور أفراد الخلية، وأشارت إلى أن انتحاريين “تسللا إلى البلاد“، عبر منسقهما محمد عبد الإله الجميلي -أحدِ سكان منطقة الحجر الأسود جنوبي العاصمة دمشق-، لتنفيذ عمليتين منفصلتين؛ واحدة تمّت في الكنيسة، وأخرى ضد مرقد السيدة زينب، الذي يحمل أهمية عليا عند الشيعة، وكانت حمايته السبب المعلن لتوافد مليشيات شيعية من العراق.
ورغم إعلان تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية” دوماً عن عملياته، لكنه لم يعلن مسؤوليته هذه المرة عن العملية، مما يزيد من غموض ملابسات الهجوم ضد كنيسة مار إلياس!
وليتعقد المشهد أكثر، أعلنت مجموعة أطلقت على نفسها “سرايا أنصار السنة“، مسؤوليتها عن الهجوم الانتحاري، مشيرة إلى أن اسم المنفذ “محمد زين العابدين- أبو عثمان”.
فيما يرى الكثير من السوريين، أن هذه المجموعة ليست أكثرَ من مجموعة تيلغرام و“مجرد واجهة وهمية لداعش“، حسب تعبير ناطق باسم وزارة الداخلية السورية.
لكن هذه المجموعة، تأسست بالفعل على تطبيق تيلغرام في مارس/آذار 2025.
بل، وتحدثت إلى “الحكّاء“ إحدى السوريات -فضلت عدم الكشف عن اسمها-، قائلةً إنها وصلت إلى تجمع في إحدى القاعات في دمشق -قبل شهور من العملية-، ووفقاً للسيدة السورية فقد قُدّم التجمع على أنه مجموعة دينية على نهج أهل السنة والجماعة لتدريس القرآن، وتحت اسم “سرايا أنصار السنة“. بالتالي، إن كانت هناك مجموعة تقوم بأدوار اجتماعية، وتُمثّل “واجهة لداعش“، فإن ذلك مصدر تهديد كبير للسلطات السورية.
حداثة المجموعة، ووجودها الافتراضي حالياً، لا يعني بالضرورة عدم وجود مجموعات تحمل أفكاراً تشابه تلك التي تنتشر على مجموعة “أنصار السنة“ في الداخل السوري، وهذا تحدٍ تواجهه سلطات الشرع، خاصة أنَّه من بينها مجموعات مقربة من “هيئة تحرير الشام”، وإن تم ضبطها خلال السنوات الماضية، منذ تمركز الهيئة في إدلب بعد عام 2017.
وأمّا عدم إعلان تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية“ مسؤوليته عن الهجوم، قد يكون لأسباب تكتيكية، ترتبط بعدم كشف الخلايا المرتبطة بها في الداخل، كما أنَّ إبقاء الوضع مهيئاً لنظريات المؤامرة، والانقسامات الداخلية، يفيد في صراع التنظيم، مع السلطة الجديدة في سوريا، أو التهيئة لهذا الصراع المحتوم.
اقرأ للحكّاء أيضاً: أبو شباب: مشروع إسرائيلي في غزة، لكن المأزق أعمق
الوضع الهش في سوريا، خاصة ما يتعلق بالحالة الطائفية، يعيد التفكير بأنَّ جهاديي تنظيم الدولة، ينفذون عملياتهم وفق منطق استراتيجي، وهو ما يفسر استهداف المسيحيين غير المنخرطين في الاستقطاب السوري بدرجة كبيرة، بالمقارنة مع العلويين، أو الدروز، أو الأكراد بأشكال مختلفة. كما أنَّ صدى استهداف المسيحيين ذو رمزية عالية في الخارج.
وذات الأمر، ينطبق على الهدف الثاني، الذي أفشل الهجوم عليه، مرقد السيدة زينب.
فكما أشرنا إلى رمزيته الدينية العالية لدى الشيعة، لكنَّ الرمزية السياسية للمرقد تستعيد الصراع الطائفي الذي شكّل علامة فارقة في الصراعيّن السوري والعراقي خلال الحقبة المعاصرة.
أذكر في عام 2021، لقاءً في النجف، مع الشيخ قاسم الطائي -توفي في سبتمبر/أيلول 2023-، في منزله المكون من عدة غرف بأبوابٍ قديمة تطل على ساحة الدار، لمحت حينها قطعة سلاح من نوع كلاشينكوف، تتهادى خلف إحدى الأبواب، ليقوم أحد مساعدي الشيخ ويغلق الباب، كي لا يتم تصويره.
في هذا اللقاء، كرر لي الطائي -الذي يعد مرجعية فصيل “أبو الفضل العباس“ الشيعي، الذي شارك في القتال في سوريا، ضد قوات المعارضة آنذاك-، كرر دعوته لحماية المراقد في سوريا من “الإرهابيين”، وكان من الأوائل الذين دعوا لذلك، وزار المرقد لاحقاً في زيارات انتشرت إعلامياً.

إنَّ استهداف المرقد، يحقق غايتين، أولها اضعاف هيبة السلطات الأمنية بمعنى سهولة تجاوزها، وهو ما يشجع المترددين الراغبين في مقاتلتها، وثانيها هو رفع التوتر الطائفي السني-الشيعي، العراقي-السوري، ليستطيع التنظيم توسيع دائرة تجنيده.
هي ذات سياسة الجهادي الأردني الذي أرسى أول أُسس تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية“، أبو مصعب الزرقاوي، وقد بدأت سنوات الاقتتال الطائفي حين نفذ تنظيمه (القاعدة في بلاد الرافدين آنذاك) هجومه الشهير على مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير/شباط 2006، قبل شهور أربعة من مقتل الزرقاوي نفسه في استهداف أميركي.
من نفّذ هجوم كنيسة مار إلياس، يدرك هشاشة وترابط الانقسامات الطائفية في سوريا، لا بل وأثرها.
وهذا تبدى واضحاً، حين كشف الإعلام في سوريا، أن أحد المتهمين، عراقيٌ يدعى كنان رمضان علي، وقد خرج من مخيم الهول شمال شرقي البلاد، ليفتح الباب أمام اتهام “قوات سوريا الديمقراطية- الكردية وغالبها (قسد)”، التي تحكم فعلياً المنطقة منذ سنوات الثورة ضد نظام الأسد، بأنها سهّلت، أو غضّت الطرف عن انتقاله إلى دمشق.
قسد بدورها نفت، مما دفع بعض وسائل الإعلام إلى إظهار وثيقة تؤكد وجود كنان في المخيم خلال فترة سابقة.
“الحكّاء“ لم تستطع التأكد من صدقية الوثيقة. لكنَّ مصدراً أمنياً عراقياً -فضّل عدم الكشف عن هويته-، قال لـ “الحكّاء“ إن “صغر سن الشاب قد يؤشر لإمكانية وجوده سابقاً في المخيم”. هذا المخيم يقع شمال شرقي سوريا، بين العراق وتركيا وسوريا، ويضم الآلاف من نساء وأطفال عوائل تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية”، خاصة من أولئك الذين لا ترغب دولهم باستقبالهم.
ولطالما حذرت الولايات المتحدة الأميركية من المخيم، واصفة إيّاه بـ “القنبلة الموقوتة“، خاصة من نشوء الأطفال في بيئة تحض على تعاليم التنظيم، التي يستمدونها من الأمهات.
وكنان قد يكون أحدهم. يقول المصدر العراقي إنَّ “قسد” المصدرُ الأهم للمعلومات، وإنَّ هناك جهوداً تجري بينهم وبين دمشق لجمع معلومات أكبر عن دور مثل هؤلاء.
وهنا يتعقد المشهد أكثر، إذ لا تزال إدارة المخيم، من القضايا الخلافية بين دمشق وقسد، خاصة أنَّ الأخيرة بنت علاقاتها القريبة مع الولايات المتحدة عبر دورها في “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش”، وفي المقابل، فإن إحدى “أوراق اعتماد” سلطات الشرع، مع الولايات المتحدة هو دور واضح في “مكافحة الإرهاب وداعش“، لذا فإنَّ مخيم الهول، وإدارته، رغم عبئه الأمني، تمثّل ورقة سياسية مهمة.
وعلى ذلك، لا توجد، جهة مرشحة أكثر من تنظيم ما يعرف بـ “الدولة الإسلامية“، لتكون المشتبه الأول في هذا الهجوم، ولعل عدم إعلان التنظيم مسؤوليته، مسألة تتعلق بالوقت، ولزيادة الضغط على أعدائه “الحكام الجدد في سوريا“.
الأسلوب المتبع، وتفاصيل الهجوم، وتبعاته، تشي برؤية تتبلور لسوريا الجديدة لدى التنظيم. وهذا يستتبع أسئلة عدة ترتبط بقدراته التجنيدية في الداخل، وكيفية إدارته الصراع، وقدرة حكومة دمشق الجديدة على تطوير آليات مواجهته، خاصة أنها في السلطة الآن، ولم تعد الظروف شبيهة بما كان عليه الوضع عندما كانت في المعارضة، وهزمها التنظيم في عدة مواضع قبل سنوات.